محمد أرسلان علي
اتخذت حالة الفوضى التي اعتدنا عليها في عقدها الأول منذ ما سُمي بالربيع العربي، منحاً جديداً ومفصلياً وفق المستجدات التي تضرب المنطقة خلال الفترة الأخيرة. الفوضى التي كانت من تداعياتها خراب سوريا والعراق واليمن وليبيا، بيد أدوات تم تشكيلها واستثمارها بشكلها الفظ لترهيب الشعوب بالنحر والقتل والتهجير والدمار الذي ضرب المنطقة بشكل عام. الأدوات التي عوَّلت عليها القوى الاقليمية والتي هي بنفس الوقت أدوات أعلى مستوىً من الأولى، هي أيضاً دخلت بشكل مباشر هذه الحروب العبثية لتنشر الفوضى بشكل أكبر مما كما نعيشه.
عوب التواقة للكرامة والحرية هي فقط التي تحيا من أجل بناء المستقبل والذي يتجلى ببناء المجتمع الاخلاقي والسياسي والمنتج لقيم الحياة، بعكس الأشخاص الذين يريدون إحياء الماضي على أنه هو المستقبل والذي ينتج مجتمع مستهلك لكل قيم الحياة ويعيشون التكرار في حيواتهم ولا يختلفون عن الأموات الذين يسيرون. انتاج القيم والحفاظ عليها خدمة لبناء الانسان الحر يُعتبر أساس الحياة ومعناها. بينما تنميط الانسان ومن خلاله المجتمع لا يمكن وصف الحالة هذه إلا بالعبودية المقننة التي يرد الغرب نشرها في مجتمعاتنا، على أساس أنها الحرية.
من يعمل يبدو جميلاً، ومن يكون جميلاً يُحب من الجميع، والحب المتشح بالأمل يصنع الحياة ويجعل من الانسان حراً.
والكسول والمستهلك دائماً يبدو قبيحاً وغير محبوب حتى من أقرب المقربين له، ولا يمكنه غير أن يكون تابع للغير وعبداً له ولأجنداته وميتاً دماغياً.
الأموات الأحياء وما أكثرهم في حياتنا يفرضون علينا أن نعيش الماضي برموزه القومية والدينية وبكل أدواته ووسائله، وحتى يفرضون علينا عدم الاجتهاد وتنفيذ ما هو مطلوب فقط وأن نقفل أدمغتنا ووعينا ونستعوذ من العلم والتطورات المعلوماتية، لأن كل شيء موجود فقط في حياة السلف الصالح القومويين والدينويين وحتى بقايا من يدَّعون اليسار باتوا أشدُ تعصباً من الجماعات المتطرفة دينياً بتقوقعهم وسباتهم في الماضي ومحاربة (الامبريالية). مع العلم أن معظم هذه الحركات والتيارات الدينية والقومية منها وحتى اليسارية ما هي إلا مسننات في لوثايان التوحش الرأسمالي الغربي الحداثوي.
منذ قرونٍ ونحن أموات نسير على طريقٍ مجهول الهدف والمبتغى. أمواتٌ لأننا أخذنا من الدين شكله وتركنا الجوهر كما القومية. لذلك ترانا نقتتل فيما بيننا على أتفه الأسباب ونبتعد عن كل شيء يوحدنا ويجمعنا. خطبنا في الجمعة باتت رثاءً أكثر ما هي ثقافة بناء الانسان ليتحدى المستقبل الذي عجزنا عن مجاراته. أمواتٌ، نعم نحن أموات ليس إلا، ومن حقها غربان الغرب والترك أن تنهش في لحمنا ووترك عظامنا لغبار الزمان يتكفل في دفنها.
أمواتٌ دينياً لأننا اتخذنا اللحية وحفّ الشارب وتقصير اللباس أساساً لديننا وكذلك جعلنا النقاب مقياس لعفة المرأة من دونها. وتركنا العمل والأخلاق والتسامح والمحبة، وابتعدنا عن الانتاج لأننا ننظر للغرب الكفرة ما هم إلا عبيد يصنعون لنا ما نريد ويوفرون لنا ملذات الحياة. وقتلنا كل انتقدنا على حالة الانحطاط هذه ولم نكتفِ بذلك، بل كفرنا كل من لا يفكر مثلنا. ولم يسلم الحلاج ولا ابن حيان ولا الفارابي ولا ابن سينا ولا الكندي ولا ابن رشد ولا ابن الهيثم. واختزل حالتنا المتنبي وأبدع منذ قرونٍ عدة حينما وصفنا “أغَايَةُ الدّينِ أنْ تُحْفُوا شَوَارِبَكم * يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ”.
أمواتٌ أيضاً قوموياً ولم نعرف من القومية سوى التعصب لها وأخذ شكلها العروبي وترك الجوهر منها وهو احترام الآخر وقوميته بغض النظر عن حجمها ومكانتها.
أجل، نحن أموات ونبكي ونلطم على من قتلناه بيدنا ونتهم الآخر كي نبرئ ذاتنا من جريمة ارتكبناها في غفلة من الزمن.
أجل، نحن أموات ونبكي ونلطم على من قتلناه بيدنا ونتهم الآخر كي نبرئ ذاتنا من جريمة ارتكبناها في غفلة من الزمن.
حالة من التراجيديا البكائية مستمرة منذ آلاف السنين وما زالت مستمرة حتى راهننا، وكل يبكي على موتاه الذين هم في الجنة “طبعاً” ويلعن أموات الآخرين الذين هم بكل تأكيد في جهنم وبئيس المصير. ميزان الجنة بأيدينا ندخل من نشاء للجنة ونحشر في جهنم من يُعارضنا.
حينما قتل البغدادي السنة وما كان يمثله بالنسبة لداعش والاخوان المسلمين، راح أهل الشيعة يضحكون ويفرحون على مقتله والخلاص منه، واليوم حينما قُتل سليماني الشيعة خرج أهل السنة يوزعون الحلوى على مقتله وكذلك لعنوه. مع العلم أنه لا فرق بين الاثنين. فكلاهما قاتل، والآن مقتولان.
وقاتلهما (أمريكا) هي من صنعتهما. وأمريكا تعلم أن الطرفين سينتقمان منها، وهذا ما ستستفيد منه أمريكا لنشر الفوضى أكثر. والضحية في كِلتا الحالتين سيكون الشعب لا غيره.
أمريكا ومن معها في الناتو هي التي صنعت أردوغان وأداته البغدادي الذي راح يستثمر به في قتل الناس وحرق البلاد وتهجير البشر، كذلك فرنسا ومن معها في الناتو هي التي صنعت الثورة الخمينية وأداتها قاسم سليماني.
لا فرق بين إيران الخمينية وتركيا الأردوغانية، فكِلاهما يخدمون أسيادهم الغرب في لجمهم الشعوب وافتعال الحرب الجانبية وإشغال الدول والمجتمعات بها، وكذلك شراء الأسلحة من الشركات الناهية الرأسمالية الصانعة الرسمية لهؤلاء الكراكوزات من الرؤساء، التي انتهت صلاحيتها تقريباً. وبغض النظر عن معادات ايران وتركيا لإسرائيل شكلاً، إلا أنهما أفضل من خدم ويخدم ويصون وجود اسرائيل.
نحن شعب مستهلك لا يحب العمل ومغيب فكرياً وعبدٌ للمادة والهجرة وبكلمة واحدة نحن أمواتٌ بكل ما للكملة من معنى. نعم نأكل ونتزاوج ونضحك ونبكي لكننا أمواتٌ نعيش في حياة لا علاقة لنا بها. هم من يصنعون ألبستنا وهواتفنا ومأكلنا وسياراتنا وحتى ثقافتنا بتنا نستوردها منهم، بسبب حالة الفشل الثقافي الذي نعيشه.
للخروج من هذا المستنقع ينبغي التعرف على الذات كما قال سقراط يوماً: “اعرف نفسك”، والتي هي الخطوة الأولى للخروج من حالة الموت التي نعيشها وننفض غبار الكسل الذي أعمى بصيرتنا. معرفة الذات التي تبدأ بالاعتراف بالآخر الذي من دونه فأنا عدم، هي الفلسفة الحياتية التي ينبغي علينا أن نؤمن بها.
تعليقات
إرسال تعليق