
لن نعتدي على أحد حتى لو امتلكنا قوة تكفينا لهزيمة العالم أجمع. ولكن حتى لو اجتمع العالم كله علينا فإننا لن نتنازل عن حقنا المشروع في الدفاع عن النفس".
منذ فجر التاريخ حين تأسست القبائل والعشائر والمجتمعات البشرية من أجل تأسيس ثقافة الحياة، اشتركت المجتمعات في قيم إنسانية قائمة على التعاون وبناء آلية دفاع مشتركة من أجل حماية نمط حياتها.
الآلية المشتركة التي نحن بصددها تسمى "الدفاع" أو الحماية، حيث تعتبر سلوكاً إنسانياً يتبعه الأفراد والمجتمعات من أجل مواجهة مخاطر الحياة.
على أرض الشرق الأوسط وبشكل خاص على أرض ميزوبوتاميا كانت هناك صراعات متواصلة بين إسلام الدولة وإسلام الثقافة أو ما يمكن تسميته بالمجتمع السياسي، هذه الحروب والصراعات استمرت طيلة الفترة بين القرن السابع وحتى القرن الثاني عشر. وكل حركة شعبية كانت تستلهم أساليبها الدفاعية من الحركة التي سبقتها، وفتحت الطريق أمام الحركات التي جاءت بعدها.
وظهرت العديد من الأمثلة الاجتماعية على المقاومة والدفاع الذاتي ضد دولة الدين خلال الفترة التاريخية الواقعة بين القرن الخامس والقرن الثاني عشر.
المزدكية، البابكية والهورامية
انطلقت الثورة المزدكية في القرن الخامس الميلادي والتي انبثقت عن المانوية والزردشتية، ولهذه الثورة أهمية كبيرة لكونها تعتبر بشهادة الوثائق التاريخية، أكبر حركة دفاع ذاتي خارج إطار الدولة.
واستندت المزدكية على فلسفة تعتمد على المشاركة في الأموال والأملاك، وفكرة المساواة بين الرجل والمرأة ورفض الظلم والتسلط على الناس.
ولأن هذه الفلسفة شكلت خطراً وتهديداً كبيراً على الدولة الساسانية المتداعية في ذلك الوقت، فإن أتباع المزدكية تعرضوا للقمع والمجازر. وقتل مزدك، وهو قائد المزكية الكردي الأصل في عام 499 ميلادية على يد الساسانيين.
الهورامية، تستند إلى الفلسفة الزردشتية والفكر الكومينالي الاشتراكي المزدكي، وتعتمد على الدفاع الذاتي. ولأن التاريخ يدون على أيدي المتسلطين والحكام، فإن صفحات التاريخ لا تحفل بالكثير من المعلومات حول الهورامية، بل وتعتبر غير موجودة أصلاً. ولكن من المعروف أن فكرة المساواة التي وضعتها الهورامية، شكلت مصدر إلهام لكل الحركات الاجتماعية والديمقراطية التي ظهرت بعد الهورامية بدءاً من مدينة ري ومروراً بسائر الشرق الأوسط.
واعتمدت الحركات الشعبية على الأفكار الهورامية حتى القرن العاشر الميلادي واستلهمت منها الشجاعة.
"ملحمتي ملحمة لم تبدأ مع بابك ولن تنتهي بانتهاء بابك"
وللمزدية والهورامية دور كبير في ظهور الانتفاضة البابكية، حيث حصلت هذه الحركة على تأييد شعبي كبير، وهي حركة قادها بابك وتمكنت من بناء جيش كبير بلغ تعداد جنوده عشرات الآلاف، وانتصرت في العديد من المعارك ضد جيوش الدولة العباسية.
وقتل بابك على يد العباسيين في سامراء، ولكن ثورته أصبحت مصدر إلهام للثورات التي حصلت بعدها من خلال ميراث المقاومة الذي جسدته.
ثورة الزنج
كانت ثورة بارزة على الخلافة العباسية في منتصف القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، تمركزت حول مدينة البصرة، جنوب العراق اليوم، وامتدت لأكثر من 14 عاماً (869 - 883م) قبل أن تنجح الدولة العباسية في هزيمتها، ويعتقد أن الحركة بدأت بزنوج من شرق أفريقيا استعبدوا وجيء بهم إلى تلك المنطقة، وامتدت لتضم العديد من المستعبدين والأحرار في مناطق عدة من الإمبراطورية الإسلامية فكان الزنج قد ثاروا على المالكين وأسسوا حكومة لهم كان مقرها مدينة المختارة (جنوب البصرة)، وهددت الدولة العباسية حتى جندت كل إمكاناتها لتسحقها، فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها.
تعتبر حركة الزنج حركة نضال ديمقراطي ضد قوى الدولة. ولم تقتصر الثورة على العبيد الأفارقة بعد أن التفت كل الشعوب المناهضة للسلطة حول هذه الثورة.
سعى الزنج إلى بناء نموذج ديمقراطي في مدينة المختارة (جنوب البصرة) وفي المناطق التي سيطروا عليها، حيث تنعدم الملكية الخاصة، الأرض للجميع، ويتشارك الجميع في العمل والإنتاج وتقاسم المنتوج. لا يوجد أحد مميز عن الآخر، الجميع سواسية.
بعد الانتصارات التي حققتها ثورة الزنج والثورات الاجتماعية الأخرى ضد العباسيين، يضطر العباسيون إلى التحالف مع الأتراك، ونتيجة للتحالف مع الأتراك تمكنوا من تجاوز تلك المرحلة. وفي مواجهة التحالف العباسي التركي تم تنظيم مقاومة دفاع ذاتي كبيرة وقوية. ومن أجل الدفاع عن مدينة المختارة يخوض الرجال والنساء والأطفال مقاومة كبيرة ضد العباسيين.
وفي النهاية يتعرض الجميع، الرجال والنساء والشباب والأطفال لمجازر إبادة، كما تم تدمير ونهب المدينة بشكل كامل
وأخيراً تم حرق المدينة بمن فيها من الناس ولم يبقوا حجراً على حجر، ولم يبقَ أي أثر لمدينة المختارة، مدينة المساواة.
لكن هذه المقاومة والروح الجماعية والمقاومة التي سطرت على هذه الأرض منعت من تطور وظهور العبودية مرة أخرى، كما تحولت إلى مصدر إلهام للثورات التي ظهرت بعدها.
القرامطة
تأسست حركة القرامطة في عام 870 واستمرت حتى عام 1070، استمرت حوالي مائتي عام، وتعتبر من أكبر الحركات في الشرق الأوسط توسعاً.
لم تظهر انتفاضة القرامطة من فراغ، ولم تتشكل لأن بعض الأشخاص انضموا إليها، وهي أكبر من مجرد طريقة دينية أو معتقد ديني.
تستند حركة القرامطة على أربعة أسس أساسية، التنظيم، التدريب، الاقتصاد والدفاع الذاتي. حيث يولي القرامطة أهمية كبيرة لموضوع الدفاع الذاتي. ويعتمد القرامطة على فلسفة التشاركية، حيث إن الناس الذي يعيشون في القرى هم أنفسهم من يديرون شؤونهم، وعلى سبيل المثال فإن الناس في مناطق القرامطة يكونون على رأس عملهم في النهار وفي الليل ينضمون إلى قوات الحماية.
وبنى القرامطة أولى المراكز التدريبية الأكاديمية وذلك في مناطق النجف والكوفة في العراق. وفي المجال التنظيمي لم يكن هناك أي تمييز بين الشعوب والمعتقدات.
ولذلك فإن الحركة القرمطية تعتبر حركة أكثر تطوراً من مجرد حركة اجتماعية طبقية، وتمكنت من الاستمرار خارج إطار الدولة كحركة اجتماعية.
في القرن التاسع بدأ القرامطة يشكلون خطراً على السلطة الحاكمة، لذلك تعرضوا للإبادة والمجازر على يد العباسيين والأتراك.
وما زالت مقولة أحد قادة القرامطة وهو حسن بن منصور تتردد على الألسنة، حيث قال "سوف يحل الخير محل الشر، وسوف يزول من حاد عن الدرب. سوف ينال حقه، وسوف يصبح الناس أحراراً كما تولد الشمس من جديد".
تقييمات أوجلان حول تلك المرحلة
ويتحدث المفكر والفيلسوف عبد الله أوجلان حول مقاومات تلك المرحلة وموضوع الحماية الذاتية:
"بعد وفاة النبي محمد، وتصفية أهل البيت، بدأت السلطات العباسية والأموية بالتوجه نحو الرجعية. حيث تم القضاء على العديد من الحركات والطرق الدينية التي تمثل الشعب، وساد الظلام الكامل على حضارة الشرق الأوسط. هذه المرحلة هي مرحلة النضال السياسي والأيديولوجي الذي أثر على كامل التاريخ البشري.
الخوارج والتي ظهرت كحركة الشرائح المضطهدة والفقيرة والمحرومة، وكذلك الحركات الأخرى مثل الهورامية والبابكية والقرامطة والحشاشين والإسماعيلية والعديد من الحركات الباطنية، أو الأصح الأيديولوجية والعملية، خاضت نضالاً كبيراً. وهي تمثل الاشتراكية البدائية. إلا أنها لم تتمكن كقوة إنتاج من تجاوز أساليب الإنتاج الإقطاعية ولم تتمكن من أداء دورها، ولم يكن من الممكن لهذه الحركات أن تنتصر. ومع ذلك فإن لهذه الحركات مكانة مهمة في تاريخ النضال من أجل الحرية والمساواة.
تعليقات
إرسال تعليق