التخطي إلى المحتوى الرئيسي

شعر محمود درويش .. تراث قومي ارتفع إلى العالمية

بقلم : سالم جبران


كلمة القاها سالم جبران في يوم دراسي عن محمود درويش في تشرين أول 2008 احتفظت بنسخة من الكلمة في ملفاتي ولم ينشر عنها الا خبرا بإطار الخبر عن اليوم الدراسي، وجدتها قبل أيام بين اوراقي لأهميتها كشهادة من أقرب أصدقاء محمود درويش أقدمها للقراء كوثيقة كتبها سالم جبران أقرب الأصدقاء لمحمود درويش، واحد الأصدقاء الوحيدين الذين قابلهم درويش قبل سفره لإجراء عملية القلب في الولايات المتحدة والتي توفي على أثرها في آب2008 وتوفي سالم جبران في كانون أول 2011– نبيل عودة)
********
محمود درويش، النقي البريء مثل طفل أسطوري، كان في الوقت نفسه ذكياً خارقاً، شغوفاً بالمعرفة والاطلاع. كان طول حياته العاصفة والغنية لا يجيب على كلام قبيح يصل إلى مسامعه ولم يدخل في حياته في مساجلات مع مهاجمين أو حاقدين أو حاسدين إلى أن أجبر كل هؤلاء على الصمت.
كانت حياته كلها، من شبابه الغض إلى آخر حياته، متركزة في أمر واحد: الانطلاق إلى أمام، الانطلاق إلى أعلى، الإبحار الدائم في عالم الشعر الذي كان بالنسبة له بحراً بلا حدود وسماءً في اتساع الأبدية. كان الشعر هدف حياته، بل كل حياته، كان الشعر هو العمل وهو البهجة وهو الحلم، كان الهدف الذي صغُرت أمامه كل الأهداف الأخرى، على الإطلاق.
ربما تظنون، أيها الأخوات والأخوة، إنني أتكلم بالعاطفة، ونحن ما زلنا على مساحة قصيرة زمنياً من الحادث المفجع بفقدان محمود، ولكني أقول لكم إن موقفي من محمود كإنسان، كصديق، وبشكل خاص موقفي من عاصفته الشعرية لم يتغير بعد وفاته.
لقد رأى محمود درويش في العشرين سنة الأخيرة من حياته احتضاناً قوياً وحباً جارفاً ليس بين الفلسطينيين جميعاً فقط، بل بين العرب في المشرق والمغرب. كان بإمكانه أن يُلقي الشعر ساعات أمام الألوف المؤلفة، في استاد رياضي أو ساحة جامعة، والشعب يستمع بسعادة ويصفق تصفيقاً ذكياً، ارتباطاً بالنشيد أو بالمعاني أو بالإشارات الذكية. كان محمود يندمج مع الناس، مع بحر الناس، وكان الناس يندمجون معه كأنما هو هم جميعاً.
سوف ينشغل النقاد والباحثون طويلاً بالسؤال الكبير: ما هو سر هذا الحب الجارف، هذا التعاطف، هذا الاندماج الشعبي الهائل مع شعر محمود درويش، ما هي الملامح التي جعلته بطلاً قومياً في حياته؟ ما الذي جعله يوحِّد الأمة التي مزقتها الانقلابات وحطمها العجز وضربها طغيان الأنظمة الشرسة والفاسدة معاً؟
لنقل أولاً إن محمود درويش هو معجزة اجترحتها الأقلية الفلسطينية التي بقيت في الوطن، داخل الكيان الإسرائيلي. وكان المخطط أن نفقد الأرض وأن نفقد الهوية وأن نفقد اللغة وأن نفقد الذاكرة. ولكننا صرنا مثل الحجر الذي رفضه البناءون فصار حجر الزاوية مما جعل البطل الفلسطيني ماجد أبو شرار الذي اغتالته إسرائيل في ايطاليا يقول: أنتم الباقون على التراب الوطني جزءاً من التراب الوطني أشرف ما في الأمة العربية قاطبة. هذا هو المشهد الخارق الذي صوَّره محمود درويش وطوّره وعبَّر عنه شعرياً وروحياً، وهذه المأثرة صارت إنسانية وعالية بفضل الشعب كله وبفضل العبقرية الشعرية لمحمود.
يجب أن يقال إن محموداً صار إلى ما صار إليه ليس فقط بفضل المضامين، بل أيضاً وأساساً بفضل التجربة الشعرية اللغة الشعرية الحافلة بالميزات الهامة المتداخلة: اللغوية والموسيقية والإبحارات الخيالية والصور المدهشة التي ابتكرها وثابر على تطويرها طول حياته..
اسمحوا لي أن أذكر أنني رافقت محموداً منذ اليوم الأول في الدراسة الثانوية في كفرياسيف. كان أنيقاً ورشيقاً وجميلاً ومعتزاً بلا غرور. كان إذا غلط في كتابة كلمة لا يشطبها فقط، بل يبدأ بكتابة كل الصفحة من جديد، وعندما ينتهي العمل يكون بدون تشطيبات إطلاقاً. كانت صفحة الكتابة التي تخرج من تحت يديه نظيفة، متناسقة، مريحة للعين، مثل محمود نفسه.
كان يطالع في سن مبكرة جداً. لقد أخذ عشرات الكتب من أستاذنا العظيم، أستاذ اللغة العربية المرحوم مطانس مطانس، كما أخذ الكتب من مثقفين مخضرمين من كفر ياسيف. قرأ محمود الياس أبو شبكة ومارون عبود وعلي محمود طه وأحمد زكي أبو شادي وسعيد عقل ومجموعة “أبولو” المصرية، وهو لم ينهِ الصف العاشر. كما اهتم معلمنا مطانس مطانس أن نقرأ كتب طه حسين وأحمد أمين. وكان يقول لنا: “مَن يقرأ أدب النهضة وفكر النهضة، يهزم الحكم العسكري ويحافظ على الجذوة القومية والإنسانية متوهجة”.
لقد بدأ محمود في سن مبكرة بكتابة الغزل، وهذا طبيعي. ولكنه لم يلبث أن بدأ بكتابة الشعر الوطني الرقيق الغنائي، شعر الحنين إلى القرية السليبة وإلى كروم الزيتون وإلى البئر المصادرة وإلى الحصان المسروق وإلى تهاليل جدته وأمه.
كان واضحاً أن الشعر لم يكن بالنسبة له أداة للظهور أو للتغني بفلسطين أو بالقرية، أو بالاعتزاز القومي، بل كان الشعر هدفاً بحد ذاته. كان يِفرغ ذاته ويجسِّد ذاته، ويجد ذاته كلها من خلال التجربة الشعرية. أحسسنا كلنا أن الشعر بالنسبة له هو مشروع حياة وقضية حياة. كانت حياته هي الشعر والشعر هو كل حياته.
وعندما انتقلنا إلى الصحافة، إلى “الاتحاد” و”الجديد” و”الغد” في أوائل الستينات، لم يحاول أن يندفع إلى الكتابة السياسية المباشرة. وحتى عندما كتب مقالاً ذا طابع قومي أو سياسي كان المقال بلغة الشاعر وحس الأديب ونفسية المثقف الذي يرى في الكلمة هدفاً لا أداة ويرى الحياة في شمولية إنسانية أوسع من السياسة، أية سياسة.
هناك اتفاق أن محمود درويش هو شاعر فلسطين، شاعر المأساة وشاعر الحلم. وهذا صحيح. ولكن محموداً لم ينزلق إلى الشعارات، وإلى الحماسة الإنشائية، استجداء للتصفيق أو للشهرة الرخيصة، بل كان، طول الوقت، إنسانياً حالماً، شكّل تعامله مع الكارثة الفلسطينية، تحدياً مدهشاً أمام التفكير الصهيوني الرسمي وأمام محاولات إنكار المحرقة الفلسطينية.
محمود لم يبك، لم يحرض، لم يكره بل قال لليهود وللعالم إننا كفلسطينيين نريد أن نعيش أحراراً على أرضنا الوطنية، مثل كل الشعوب، لا نِهدد بل نريد إسقاط التهديد الذي يحاصر الإنسان الفلسطيني حياةً وثقافةً وحلماً إنسانياً.
محمود لم يعش يوماً في غيتو فلسطيني بل عاش في العالم الرحب، وكان واثقاً أن العالم يفهمنا، من الطبيعي أن يفهمنا وفي الوقت نفسه حوَّل التراجيديا الفلسطينية إلى ناقوس يدق فوق ضمير العالم منادياً ومجنداً للحق والحرية.
بودي أن أمس باختصار قضية تتعلق بالتجديد الشعري عند محمود. محمود نادراً ما كتب قصيدة عمودية كلاسيكية بل كتب شعراً حديثاً، شعر التفعيلة. وكان مجدداً فيه. ولكن قام بتجديد خارق من حيث قوة الموسيقى من ناحية، وثانياً من حيث ارتباط محمود مع المناخات الكلاسيكية.
هناك حشد من الإشارات في شعر محمود من القرآن الكريم ومن التوراة اليهودية ومن الإنجيل المسيحي ومن الثقافات القديمة للشعوب الشرقية مما يجعله مواطن العالم. كما أن في شعر محمود إشارات هائلة إلى الشعر القديم وحتى تراكيب جمله فيها عبق من الشعر الجاهلي والأندلسي لغنائيته الساطعة.
ولعل أهم ميزات شعر محمود أنه بالوزن الرقراق والقوافي المتعانقة والصور الشعرية قد رفع ذوق الملايين العربية وكان لقاؤه مع الناس لقاء المغني الشعبي الأسطوري، يطرب الناس بشعره ويطربونه هم بالتفاعل الحار الساطع.
وبحق قال الموسيقار اللبناني الفذ مارسيل خليفة: “أنا لا ألحن شعر محمود، وكل ما أفعله أنني أكتشف ألحان محمود لشعره وأصوغها موسيقياً”.
إن شعبنا الفلسطيني والشعوب العربية جميعا وحركة الثقافة العالمية، سوف يشعرون بغياب محمود. والعزاء الوحيد، الذي ليس لنا سواه، هو أن التراث العظيم لمحمود درويش سوف يبقى أبداً تراثاً عربياً وعالميا حيَّاً وزاداً روحياً لشعبنا الفلسطيني الطامح والمكافح في سبيل حياة إنسانية شريفة وآمنة وسعيدة.
أنا واثق أن شعر محمود درويش سيعيش آلاف السنين بعده، وسوف يساهم في صياغة النفسية الثقافية والروحية والغنائية لشعبنا. وبهذا المعنى، حقاً لا مجازاً، فإن محمود درويش لم يمت، ولن يمت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بقلم: هدية علي عضو ديوان المجلس التشريعي لاقليم الجزيرة / الخط الثالث هو المشروع الديمقراطي لبناء سوريا الجديدة

بقلم: هدية علي - سوريا عضو ديوان المجلس التشريعي في اقليم الجزيرة ان الاحداث التي تشهدها سوريا والمنطقه هي.دراماتيكيه متسارعه والقوى التي تدير العالم مثل امريكا وروسيا والصين التي تلعب دور الخافي والقوى الاقليميه والقوى السوريه مثل النظام والمغارضه ومشروعنا الديمقراطي الذي انتهج الخط الثالث الذي لعب الدور المنقذ للشعب والكل له حساباته واجنداته وتحالفه والمشاريع لدى القوى المحليه والثانيه هي مشروع النظام هو هدفه اعادة السيطرة على كامل المناطق واعادة سوريا الى ماقبل ٢٠١١وقوى المعارضه التي قد تكون اسلاميه راديكاليه والاخوانيه وبعضها تبني الفكر السياسي الاسلامي والمعاداة والخط الثالث الذي هو المشروع الديمقراطي المبني على الادارات الذاتيه الديمقراطيه هدفنا هو ان نحمي مناطقنا من الدمار والفوضى والثاني. هو بناء سوريا المستقبل في ظل نظام استبدادي شمولي هذا المشروع الديمقراطي الذي ومنذ السنوات الاولى وحتى الان حقق انجازات كبيرة على الاصعدة .السياسية والدبلوماسية والعسكرية والخدميه بدء من المجالس والكومينات ووصولا الى الهيئات الادارة وتشكيلها وتمثيل كافه المكونات المنطقه فيها هذه الادارة...

مهمة بوتين الرئيسية عام 2020 الإعتراف بالإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال شرق سوريا

  /موسكو: نوس سوسيال/ علمت نوس سوسيال من مصدر رسمي رفيع المستوى في الحكومة الروسية  أن روسيا ستستمر في العام الجديد، في تعزيز موقعها كدولة قوية، وستواصل حل التحديات التي تواجهها وذلك وفقا لاستراتيجيتها السياسية. في  عام 2019 ، تمكنت روسيا من إجبار الكثيرين على التحدث عنها، وتعتزم مواصلة فرض "رؤيتها وأسلوبها"، مما سيعزز الوجود الروسي في الساحة الدولية. وأشارت اشارت نوس سوسيال إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين أعلن ذلك خلال كلمته بمناسبة الاحتفال بالعام الجديد. ووفقا لنوس سوسيال يواجه الكرملين العديد من الأسئلة والمسائل التي يتوقع حدوث تقدم كبير فيها. على سبيل المثال، يستمر الدفء بالتسلل تدريجيا إلى العلاقات بين كييف وموسكو: لقد كانت المفاوضات متوقفة منذ عام 2016، لكن صعود فلاديمير زيلينسكي إلى السلطة غير ميزان القوى. ونتيجة لذلك، في 29 ديسمبر الماضي، تمت عملية لتبادل الأسرى والسجناء بين أوكرانيا ودونباس، بعد التبادل الأول الذي جرى في 7 سبتمبر. وأكد المصدر الحكومي على أن روسيا ورغم منح سلطات كييف المجال للمناورة، أكدت أنها "لن تبدأ أي مفاوضات بشأن شبه جزيرة القر...

تنويه / نوس سوسيال تحقق سبقا صحفيا في الاشارة على قياة وتواجد سليماني بالقرب من السفارة الأمريكية

بتاريخ 31 من كانون الأولا المنصرم نشر موقعنا خبرا عن الهجوم على السفارة الامريكية في بغداد وكنا قد ذكرنا ان من ضمن المشاركين في القيادة الميدانية للهجوم الخزعلي الذي يتلقى أوامره من قاسم سليماني وعلى مرأى مراسل نوس سوسيال في بغداد ومسمعه حيث كان بالقرب بضعة أمتار من سيارة اللواء قاسم سليماني المتنكر في لباسه وهو يعطي آوامره للخزعلي عبر الهاتف  الجوال قائلا اسمع ياخزعلي إياكم أن تتراجعوا أحرقوا أبواب السفارة واقتحموها ودمروا وأحرقوا كل شئ فيها وذكرمراسلنا ان سليماني يتنقل بشكل دائم بين العراق وسوريا ولبنان لقيادة العمليات العسكرية بذلك يكون موقعنا نوس سوسيال قد حقق سبقا صحفيا في نشر كل أخباره الميدانية بصدق وامانة صحفية فاقتضى التنويه